ارتفاع الدين العالمي ليصل إلى مستويات قياسية في النصف الأول من عام 2023
على مدى السنوات الـ50 الماضية، انهارت أربع موجات عارمة من الديون على الاقتصاد العالمي وانتهت ثلاث منها بأزمة، إذ عانت أميركا اللاتينية من عقد ضائع في الثمانينيات، وعانت آسيا من انكماش حاد في التسعينيات، وأدى الانهيار المالي العالمي في عام 2008 إلى إرسال موجات صادمة في جميع أنحاء العالم، فيما لم يتحدد بعد مصير الأزمة الرابعة التي بدأت في عام 2010، ومع ذلك، تشير الأدلة إلى أن التاريخ يعيد نفسه بالفعل.
يبلغ اليوم إجمالي ديون العالم بما في ذلك اقتراض الحكومات والأسر والشركات 250 تريليون جنيه استرليني (307 تريليونات دولار أميركي)، بزيادة 10 تريليونات دولار في الأشهر الستة الأولى من عام 2023، وفقاً لمعهد التمويل الدولي (IIF). وبحسب المعهد، أدى ارتفاع أسعار الفائدة إلى عدم سداد مدفوعات ديون بقيمة قياسية بلغت 550 مليار دولار هذا العام وحده، ارتفاعاً من 330 مليار دولار في عام 2019، وفي حين أن هذا يمثل أقل من واحد في المئة من الديون المستحقة، فإن الاتجاه واضح مع غرق مزيد من البلدان في الديون.
وارتفع الدين العام في العالم خلال الوباء، إذ مزقت الحكومات قواعد الاقتراض لإبقاء الأسر واقفة على قدميها بالدعم المالي، ثم تراجعت مشكلة المديونية بعد ذلك مع تعافي الاقتصاد العالمي، على رغم أنه قد أعاد ترسيخ نفسه اليوم مرة أخرى.
ويعتقد صندوق النقد الدولي أن الدين العام العالمي في طريقه للارتفاع من نحو 20 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في عام 2005 إلى ما يعادل تقريباً حجم الاقتصاد العالمي بحلول نهاية العقد.
وانتهى خفض نسب الدين بعد الجائحة مع انتهاء عمليات الإغلاق، مع أربعة أخماس الزيادة الأخيرة مدفوعة بالاقتصادات المتقدمة مثل الولايات المتحدة والمملكة المتحدة، وفي الوقت نفسه يتباطأ النمو العالمي، مما يعني أن البلدان لا تستطيع الاعتماد على توسيع الكعكة الاقتصادية لإبقاء الديون على مسار مستدام.
الدول أصبحت مدمنة على الديون
وحذرت أحدث التوقعات العالمية لصندوق النقد الدولي من أن عديداً من البلدان في طريقها الآن إلى النمو بنصف المعدل الذي اعتادت عليه، مما يترك العالم على المسار الصحيح نحو نمو منخفض بشكل دائم يعرضه لصدمات اقتصادية و"تضاؤل الفرص للتغلب على الندبات الناجمة عن الوباء والحرب".
ويعتقد مدير معهد التمويل الدولي، إيمري تفتيك، أن الدول أصبحت مدمنة على الديون. ويقول "في الوقت الحالي، لدى معظم البلدان نموذج نمو يعتمد بالكامل على الاقتراض، وكلما تباطأ هذا الاقتراض نرى نمواً أقل، وسيكون لذلك عواقب سلبية كبيرة على المدى المتوسط إلى الطويل لذلك نحن قلقون، وبخاصة إذا كانت وتيرة تراكم الديون سريعة للغاية".
وأدى ارتفاع أسعار الفائدة إلى ارتفاع كلفة خدمة الديون مع استمرار البعض في اقتراض مبالغ ضخمة لسد الفجوة بين عائدات الضرائب والإنفاق العام، وقد أثار هذا قلق المصرفيين والاقتصاديين على حد سواء.
وحذر الرئيس التنفيذي لبنك "جيه بي مورغان"، جيمي ديمون، الأسبوع الماضي، من أن الاقتراض في جميع أنحاء العالم مرتفع للغاية.
وقال ديمون، "أنظر إلى الوضع المالي والإنفاق المالي، إنه أكثر مما كان عليه في وقت السلم على الإطلاق، مع أعلى مستويات الدين الحكومي التي شهدناها على الإطلاق، وهناك شعور قوي بأن البنوك المركزية والحكومات قادرة على إدارة كل هذه الأمور، لكنني حذر".
ويقول كبير المستشارين الاقتصاديين في "أليانز"، محمد العريان، لصحيفة "التلغراف"، إن حساب الديون لن يؤثر في الدول بالتساوي. ويضيف "في حين أن أعباء الديون آخذة في الارتفاع في معظم البلدان في جميع أنحاء العالم، فإن الآثار تتباين قليلاً".
وأضاف العريان، "بعض البلدان في وضع جيد بشكل خاص للتعامل مع أعباء الديون الثقيلة، بخاصة أنها تتمتع بإمكانات نمو قوية على المدى المتوسط وتستفيد من المزايا الهيكلية مثل الأسواق المالية العميقة والقبول العالمي لعملتها". وحذر قائلاً "هناك دول أخرى وصلت بالفعل إلى نقطة الانهيار أو على وشك الانهيار، وتفتقر إلى الموارد الخارجية أو المحلية لتغطية خدمة ديونها الثقيلة والمتزايدة".
وتشمل البلدان التي وصلت إلى نقطة الانهيار عديداً من الاقتصادات النامية التي أغلقت أبوابها أمام أسواق الديون الدولية.
ويقول تفتيك، إن من بين 73 دولة حددها البنك الدولي على أنها من بين الدول الأكثر فقراً وضعفاً خلال الوباء، تمكنت دولتان فقط من الاقتراض من الخارج هذا العام.
ويقول "لم تتمكن سوى منغوليا، وأخيراً، أوزبكستان هذا الشهر، من جمع رأس المال من أسواق الديون الدولية، والبقية ليس لديهم إمكانية الوصول. يتعرض كثيرون للسحق تحت وطأة ديونهم، وفي بعض البلدان الأفريقية، يذهب أكثر من 50 في المئة من الإيرادات الحكومية إلى نفقات الفائدة".
وتخلف آخرون عن سداد الديون، إذ شهد العام الماضي أكبر عدد من حالات التخلف عن سداد الديون السيادية منذ عام 1983، وهو رقم يمكن تجاوزه بسهولة في عام 2023 بحسب تفتيك.
أزمة ديون صامتة
ويقول نائب كبير الاقتصاديين في البنك الدولي إيهان كوس، إنه حتى لو لم تتخلف البلدان عن السداد، فإن كثيراً منها يقع بالفعل في وسط "أزمة ديون صامتة"، إذ أدى الاقتراض على مدى عدد من السنوات إلى ترك البلدان تتأرجح بشكل دائم على حافة الإفلاس.
وفي حين تظل الديون المقومة بالدولار أيضاً مشكلة بالنسبة إلى البلدان، يؤدي ارتفاع أسعار الفائدة والمخاوف في شأن الاقتصاد العالمي إلى ارتفاع قيمة الدولار مقارنة بعملات الأسواق الناشئة.
ويوجد حالياً 12.9 تريليون دولار أميركي من الديون المقومة بالدولار خارج الولايات المتحدة، وفقاً للبيانات التي نشرها بنك التسويات الدولية (BIS) وما يقارب نصف هذا المبلغ يحتاج إلى إعادة تمويل خلال العام المقبل.
ولكن حتى الاقتصادات الأقوى بدأت تشعر بوطأة هذه الأزمة، في حين لا يزال الاقتراض في الاقتصادات المتقدمة أعلى من مستويات ما قبل "كوفيد"، ويعتقد مكتب الموازنة في الكونغرس الأميركي أن العجز الأميركي سيبلغ 10 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي بحلول عام 2053، ارتفاعاً من النسبة الحالية البالغة ستة في المئة، مع استمرار شيخوخة السكان.
ويتفق تفتيك من معهد التمويل الدولي وكوسي في البنك الدولي على أن بلدان مثل المملكة المتحدة والولايات المتحدة، التي تقترض بعملاتها الخاصة، لا تواجه نفس تحديات التمويل التي تواجهها الأسواق الناشئة، لكن الإفراط في الاقتراض له ثمن، فبالنسبة إلى الاقتصادات المتقدمة، فإن هذا الثمن يتمثل في ضعف النمو وقلة الأموال اللازمة لتمويل الخدمات العامة مع تخصيص مزيد من أموال دافعي الضرائب لخدمة الديون، وتعد المملكة المتحدة نموذجاً صارخاً على ذلك، فبالعودة إلى نوفمبر (تشرين الثاني) 2020، توقع مكتب مسؤولية الموازنة أن يصل الإنفاق على فوائد الديون إلى 25.5 مليار جنيه استرليني (30.8 مليار دولار أميركي) فقط في الفترة 2023-2024. وفي مارس (آذار) الماضي، توقع مكتب مسؤولية الموازنة أن يصل حجم الإنفاق إلى 94 مليار جنيه استرليني (113.7 مليار دولار أميركي).
هذا يعني أن كلف خدمة الدين يمكن أن تعادل تقريباً 4.5 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في الفترة 2022-2023، أي أكثر من ضعف نسبة اثنين في المئة التي تم إنفاقها في العام السابق والأعلى منذ أعقاب الحرب العالمية الثانية، في حين من المتوقع أن تتجاوز فاتورة فوائد الديون في المملكة المتحدة هذا العام موازنة التعليم بأكملها.
ويقول تفتيك، إنه بالنسبة إلى الولايات المتحدة، التي خصها صندوق النقد الدولي، أخيراً، بمستويات الاقتراض "المثيرة للقلق"، فإن المسألة ليست ما إذا كانت "ستفي بالتزامات الاقتراض".
توقف النمو
ويتساءل تفتيك إلى أي مدى نريد حقاً تخصيص الإيرادات الحكومية لمدفوعات الفائدة، وما مدى فائدة ذلك لدعم النمو؟ وإن كان عبء الفائدة لهذه الديون الكبيرة هو السؤال الرئيس الذي يجب معالجته. ويقول إن صناع السياسات يجب أن يركزوا على النمو إذا أرادوا تجنب التعرض للديون.
ويضيف "من الأهمية بمكان أن يقوم صناع السياسات بتهيئة بيئة مواتية للنمو، هذا أمر بالغ الأهمية لأن النمو يقوده القطاع الخاص، لذا فإن القطاع الخاص يريد الوضوح ولا يحب عدم اليقين وهو العامل الأكبر كما يعتقد تفتيك عند اتخاذ قرار الاستثمار، لذا فإن البيئة التمكينية هي المفتاح".
فيما يقول كوسي في البنك الدولي، إن الوقت ينفد بالفعل، مضيفاً "لقد بدأنا بواحدة من أعمق فترات الركود العالمي في عام 2020، وقد حدث لدينا انتعاش بعد أن انخفض النمو، في حين كان النمو في كل عام أضعف من العام السابق على المستوى العالمي". وتابع "وفي العقد الأول من القرن الـ 21، بلغ النمو نحو ثلاثة في المئة، والآن أصبح 2.5 في المئة وتواجه المملكة المتحدة وأوروبا تحديات ديموغرافية ضخمة، وتحديات ضخمة من حيث الإنتاجية، وتحديات ضخمة من حيث تحقيق نمو مستدام للاستثمار".
ويرى كوسي، إن الخطر اليوم يكمن في أن العالم ينزلق إلى عقد ضائع بسبب "قنبلة موقوتة" من الديون.
المصدر : . عربية INDEPENDENT