أكبر مستثمري العالم .. معاناة العالم بسبب الدولار قد تنتهي أخيراً

يراهن بعض من أكبر مستثمري العالم على أن أسوأ مرحلة من التقلبات الناتجة عن ارتفاع الدولار الأميركي انتهت، وذلك بعد صعوده المدوي الذي قلب الاقتصاد العالمي رأساً على عقب بطرق لم تحدث على مر التاريخ الحديث إلا نادراً جداً.

فبعدما قفزت العملة الأميركية إلى أعلى مستوياتها على مدى عدة أجيال خلال العام الماضي ما أدى إلى تفاقم الفقر والتضخم في مختلف أنحاء العالم من باكستان إلى غانا- دخلت العملة الخضراء الآن فيما يسميه بعض المتنبئين بداية موجة هابطة يصل فيها الدولار لأدنى مستوياته في عدة سنوات.

يقول مستثمرون إن الدولار في طريقه للتراجع لأن الجزء الأكبر من زيادات أسعار الفائدة في بنك الاحتياطي الفيدرالي انتهى، بينما من المتوقع زيادة قوة كل عملة أخرى بالتوازي مع استمرار البنوك المركزية في التشديد النقدي. ورغم تسبب البيانات الأخيرة في إعادة تفكير المتداولين حول مدى الارتفاع المتوقع في أسعار الفائدة الأميركية، إلا أن التحوّل إلى الأصول الخطرة التي تمتد من الأسهم إلى الأسواق الناشئة بدأ في الظهور بالفعل، استناداً إلى الرهانات على فقدان الدولار لقوته.

يتمسك العديد من المستثمرين بشدة بهذه الرهانات، حتى بعدما عوّض الدولار مؤخراً خسائره لهذا العام، ما يؤجج المخاطر المحيطة بالمراهنين على هبوط الدولار.

"ذروة الدولار":

قال جورج بوبوراس، الخبير المخضرم لثلاثة عقود في السوق ورئيس الأبحاث في صندوق التحوط "كيه 2 أسيت مانجمنت":(K2 Asset Management) "وصل الدولار لذروته بالفعل، والعملة الأميركية في طريقها إلى التراجع بشكل جوهري.. ورغم أن التضخم في الولايات المتحدة ما يزال مستمراً، وأن الأسواق تتوقع ارتفاع أسعار الفائدة الأميركية لمستويات أعلى ولفترة أطول، لكن هذا لا يلغي حقيقة أن الاقتصادات الأخرى في العالم تقلص الفارق بينها وبين الولايات المتحدة".

مع ذلك، لا يمكن المبالغة في التفاؤل حول الانفراجة التي سيتلقاها الاقتصاد العالمي نتيجة الضعف المتوقع للدولار. فرغم أن أسعار الواردات في الدول النامية ستنخفض؛ ما يساعد على خفض التضخم العالمي. إلا أن ذلك سيؤدي في الوقت نفسه إلى ارتفاع سعر كل شيء من الذهب إلى الأصول عالية المخاطر، مثل الأسهم والعملات المشفرة مع تحسن معنويات المستثمرين.

تضاؤل قوة العملة الأميركية:

أيضاً قد يساعد ذلك على تخفيف بعض الأضرار التي خلفها عام 2022، عندما أدت زيادة قوة الدولار إلى مجموعة من النتائج الكارثية، حيث صعد التضخم في ظل ارتفاع تكلفة الغذاء والنفط، ودفع ذلك دول مثل غانا إلى حافة التخلف عن سداد الديون. فيما عانى مستثمرو الأسهم والسندات من خسائر فادحة.

يُرجح أن تتضاءل قوة العملة الأميركية وكذلك العلاوة التي تقدمها فائدة الاحتياطي الفيدرالي مع إظهار البنوك المركزية الأخرى إصراراً مشابهاً على إبطاء زيادة أسعار المستهلكين.

ويشير واضعو السياسات النقدية في منطقة اليورو وأستراليا إلى أن هناك حاجة لرفع أسعار الفائدة بصورة أكبر لكبح التضخم، فيما تتزايد التكهنات حول تخلّي بنك اليابان عن سياسة التيسير النقدي المفرطة هذا العام.

تُظهر بيانات مبادلات سعر الفائدة أن تكاليف الاقتراض الأميركية ستبلغ ذروتها على الأرجح في يوليو المقبل، وقد يأتي خفض سعر الفائدة في وقت مبكر بحلول أولى اجتماعات الفيدرالي في 2024، مع عودة التضخم مجدداً إلى المستوى المستهدف من قبل البنك المركزي الأميركي.

ينعكس تأثير هذه الرهانات بوضوح على تحركات الدولار، حيث انخفض مؤشر بلومبرغ للدولار الفوري 8% تقريباً منذ بلوغه قمته القياسية في سبتمبر الماضي. بالتزامن مع ذلك، اشترى المستثمرون سندات وأسهم الأسواق الناشئة بأسرع وتيرة في نحو عامين خلال الشهر الماضي.

مراهنون على هبوط الدولار :

سيدهارث ماثور، رئيس أبحاث الأسواق الناشئة في آسيا والمحيط الهادئ بفرع بنك "بي إن بي باريبا" في سنغافورة، يعتقد هو وزملاؤه أن "الدولار بلغ ذروته بالفعل، مع بداية موجة هابطة قد تجر العملة الأميركية لأدنى مستوياتها في عدة سنوات، كما نراهن على هبوط الدولار بشكل جوهري، ونتوقع تراجعه خلال 2023، لا سيما في النصف الثاني من العام".

يرى بعض المشاركين في السوق أن الاحتياطي الفيدرالي يتجه نحو إقرار زيادات صغيرة على أسعار الفائدة، نظراً لتوقعات بتراجع ضغوط الأسعار. يتناقض هذا الرأي إلى حد ما مع تقييم البنك المركزي الأميركي للتضخم، وأنه ما يزال يشكل مصدر قلق، وهناك حاجة إلى مزيد من زيادات أسعار الفائدة لخفضه إلى مستهدف المركزي البالغ 2%.

"وول ستريت" ترى الرهان على سقوط الدولار الملك سابقاً لأوانه

بدوره، قال إريك شتاين، كبير مسؤولي الاستثمار والدخل الثابت في "مورغان ستانلي إنفستمنت مانجمنت الاحتياطي الفيدرالي سيواصل تشديد سياسته النقدية بشكل أكبر بكثير طالما أنه لم يحقق هدفه بعد. فالبنك يقول إنه سيخفض التضخم إلى مستهدف الـ2%، لكن في الواقع أتوقع وصوله إلى 3% أو نحو ذلك. مع هذا، لا أعتقد أنه سيستمر في رفع أسعار الفائدة حتى تصل إلى 6% بسبب ذلك فقط".

الين يقفز واليورو ينتعش

كل هذا يعني أن العملات التي عانت تحت وطأة قوة الدولار من المرجح أن ترتفع من الآن وصاعداً. قفز الين بالفعل أكثر من 12% مقابل العملة الأميركية منذ انخفاضه إلى أدنى مستوياته منذ ثلاثة عقود في أكتوبر الماضي، ويتوقع المحللون الاستراتيجيون الذين استطلعت بلومبرغ أراءهم صعود الين بنسبة 9% أخرى بحلول نهاية العام الجاري.

ارتفع اليورو بنسبة 11% تقريباً مقارنة بأدنى مستوى وصل له في سبتمبر الماضي، بينما فقد الدولار قوته مقابل معظم أقرانه في مجموعة الدول العشر خلال الأشهر الثلاثة الماضية. تقدم مؤشر "بلومبرغ جيه بي مورغان" الذي يرصد أسعار سلة من العملات الآسيوية مقابل الدولار بأكثر من 5% منذ هبوطه إلى أدنى مستوياته في أكتوبر الماضي.

قال دوايفور إيفانز، رئيس استراتيجية الأسواق الكلية في آسيا والمحيط الهادئ بمؤسسة "ستايت ستريت غلوبال ماركتس" (State Street Global Markets): "الكثير من العوامل التي أدت لزيادة قوة الدولار في 2022 فقدت زخمها. فيما تُقلص البنوك المركزية الأخرى في مجموعة دول العشر الفارق بين أسعار الفائدة لديها وبين سعر الفائدة الأميركي. وإذا أدت إعادة فتح الصين إلى تحفيز الطلب العالمي؛ سينتهي الإقبال على الملاذات الآمنة المدفوع بالحذر من التقلبات".

اتجاه للبيع على المكشوف

يختبر بعض المستثمرين بالفعل النظرية القائلة بأن صدارة الدولار انتهت. وغيّرت مؤسسة "أبردن" (abrdn) توصياتها للدولار إلى "محايد" في أواخر العام الماضي بعدما كانت تنصح بـ"الشراء"، فيما تبيع "جوبتر أسيت مانجمنت" (Jupiter Asset Management) العقود الآجلة المباشرة للعملة الأميركية على المكشوف.

تراجعت "كيه 2 أسيت مانجمنت" عن تعرّضها طويل الأجل للدولار منذ أكتوبر الماضي، وتتوقع تفوق أداء العملات المستخدمة في الدول المصدرة للسلع الأساسية مثل الدولار الكندي والدولار الأسترالي هذا العام.

الدولار القوي يستقبل العام الجديد بحضور أقل بريقاً

بالمثل، قفزت الرهانات الهبوطية لصناديق التحوط ضد الدولار الأميركي في أوائل يناير الماضي إلى أعلى مستوياتها منذ أغسطس 2021. وتتوقع "جيه بي مورغان أسيت مانجمنت" أن يصعد الين واليورو بصورة أكبر.

قال كيري كريغ، الخبير الاستراتيجي في "جيه بي مورغان أسيت"، التي تشرف على استثمارات بأكثر من 2.2 تريليون دولار: "استمر أداء الدولار الأميركي الاستثنائي لفترة طويلة. لكن الآن أصبح لدينا فجأة توقعات أفضل بكثير لمنطقة اليورو، كما سيتلقى الين دعماً كبيراً. وسنحصل على دفعة إضافية من إعادة فتح الاقتصاد الصيني".

"ابتسامة الدولار":

يتوخى بعض المستثمرين الحذر قبل اتخاذ رهانهم الهبوطي التالي ضد العملة الأميركية، ومنهم جيمس آثي من "أبردن" الذي ينتظر "المرحلة الأخيرة من تجنب المخاطرة"، وهي مرحلة تؤدي فيها توقعات ضعف الاقتصاد العالمي إلى تحفيز موجة جديدة من الطلب على الدولار.

أضاف آثي، الذي يعمل كمدير استثمار بإدارة توقعات أسعار الفائدة في لندن: "بمجرد شروع الاحتياطي الفيدرالي في خفض أسعار الفائدة، ووصول الأصول عالية المخاطر إلى أدنى مستوياتها؛ سنتجه حينها إلى عمليات بيع على المكشوف للدولار مسايرة للتقلبات الدورية".

إضافة إلى ذلك، يمكن للمدافعين بشدة عن قوة الدولار الأميركي أيضاً انتظار حدوث ما يسمى بنظرية "ابتسامة الدولار" (الصعود المباغت للعملة الأميركية) للحصول على علامات إيجابية تنافي التوقعات.

هذه النظرية –التي وضعها المستثمر ستيفن جين وزملاؤه في بنك "مورغان ستانلي" عام 2001- تتوقع اقتناص الدولار لمكاسب في الأوقات التي يكون فيها الاقتصاد الأميركي إما في حالة ركود عميق أو ينمو بقوة، أو يقدم أداءً ضعيفاً في أوقات النمو المعتدل.

رهانات الملاذات الآمنة :

لتوضيح الصورة، لا يراهن أحد على أن تراجع الدولار سيحدث مباشرة، فما تزال أسعار الفائدة الأميركية تصعد، كما أن خطر الركود العالمي والمخاطر الجيوسياسية يعززان الطلب على الملاذات الآمنة.

ويرى عمر سليم، الرئيس المشارك لقسم الدخل الثابت في آسيا باستثناء اليابان بفرع مؤسسة "باين بريدج إنفستمنتس" (PineBridge Investments) في سنغافورة، أن "الدولار بلغ ذروته بالفعل، لكننا لا نتوقع انعكاساً كاملاً لقوته التي اكتسبها خلال العامين الماضيين". كما يُرجِح إبقاء بنك الاحتياطي الفيدرالي لأسعار الفائدة عند مستويات مرتفعة مع استمرار صعود التضخم، وهذا سيساعد على "تقليص ضعف الدولار".

بل ويتوقع آخرون ما هو أكثر من ذلك، إذ يرجحون استمرار العوائد الأميركية المرتفعة في جذب المستثمرين، وهو ما سيساعد في دعم الدولار.

كتبت "إلسا ليغنوس"، رئيسة استراتيجية العملات الأجنبية في مؤسسة "أر بي سي كابيتال ماركتس" (RBC Capital Markets) بمذكرة نُشرت هذا الشهر: "توقعاتنا الأساسية تشير إلى انتعاش الدولار حتى نهاية العام الجاري. فما تزال العملة الأميركية تقدم أعلى عائد في مجموعة العشر، كما أنها تدر عوائد أفضل من الكثير من الأسواق الناشئة".

بالنسبة للمستثمرين مثل ستيفاني هولتز جين من "دويتشه بنك"، فإن إقرار ترجيحات إبطاء بنك الاحتياطي الفيدرالي لوتيرة رفع أسعار الفائدة يُعد أمراً أساسياً في التخطيط لمسار الدولار في 2023. ومن المهم أيضاً مراعاة وضع العملة الأميركية باعتبارها الأصل الاحتياطي الأكثر هيمنة حول العالم.

اختتمت هولتز جين، التي تشغل منصب كبيرة مسؤولي الاستثمار في آسيا والمحيط الهادئ بالذراع المصرفية الخاصة لمصرف "دويتشه بنك" في سنغافورة: "لقد بلغ الدولار ذروته، لكنه سيحافظ على قوته في ضوء تمتعه بمركزه كملاذ آمن".

المصدر : Bloomberg

تم التحديث في: الجمعة, 22 آذار 2024 13:34
حقوق النشر © جميع الحقوق محفوظة لشركة أصول