الذهب يسجل قفزة تاريخية وسط تصاعد التوترات الجيوسياسية وصدام ترامب مع الاحتياطي الفيدرالي

سجلت أسعار الذهب مستوى قياسيًا تاريخيًا جديدًا خلال تعاملات الأسواق الآسيوية، مدفوعةً بتصاعد التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين، والمخاوف المتزايدة من تدخل سياسي في سياسات الاحتياطي الفيدرالي الأميركي.

ويأتي هذا الارتفاع الحاد وسط دعوات الرئيس الأميركي دونالد ترامب لتغيير قيادة البنك المركزي وخفض أسعار الفائدة، مما زاد من قلق الأسواق بشأن الاستقرار النقدي ودفع المستثمرين نحو الملاذات الآمنة مثل الذهب.

أداء أسعار الذهب اليوم

قفزت أسعار الذهب بشكل حاد يوم الثلاثاء لتسجل مستويات تاريخية غير مسبوقة، حيث بلغ سعر الذهب الفوري مستوى 3,471.36 دولار للأونصة عند الساعة 10:30 صباحًا بتوقيت تركيا، في حين سجل أعلى مستوى له عند 3500 دولار للأونصة في وقت سابق من الجلسة.

كما ارتفعت عقود الذهب الآجلة التي تنتهي في يونيو لتصل إلى 3,479.69 دولار للأونصة، وحققت هي الأخرى ذروتها عند 3507 دولار.

وتأتي هذه القفزة بعد مكاسب قوية في جلسة الاثنين حيث ارتفع المعدن الثمين بأكثر من 3%، بينما سجل يوم الثلاثاء ارتفاعًا إضافيًا بنسبة 2.2%، بعد أن شهد ارتفاعًا نسبته 2.9% في الجلسة السابقة.

ترامب والاحتياطي الفيدرالي: معركة استقلالية البنك المركزي

كان أحد العوامل الرئيسية وراء هذه الموجة الصعودية في أسعار الذهب هو التصعيد العلني بين الرئيس الأميركي دونالد ترامب وبنك الاحتياطي الفيدرالي. ففي تطور مثير للقلق، أشار مستشار البيت الأبيض كيفن هاسيت إلى أن الإدارة الأميركية تدرس بجدية إمكانية إقالة رئيس الاحتياطي الفيدرالي جيروم باول، وهو إجراء نادر يهدد استقلالية أهم مؤسسة نقدية في العالم.

وقد دعا ترامب مرارًا وتكرارًا البنك المركزي إلى خفض أسعار الفائدة على الفور، محذرًا من أن الاقتصاد الأميركي قد يتباطأ إذا لم يتم اتخاذ إجراءات توسعية عاجلة. ومن جهته، أكد جيروم باول الأسبوع الماضي أن الاحتياطي الفيدرالي لا يخطط لخفض أسعار الفائدة في المدى القريب، مشيرًا إلى ضغوط تضخمية محتملة وزيادة في عدم اليقين الاقتصادي بسبب الرسوم الجمركية.

هذا الصدام العلني أعاد إلى الواجهة المخاوف من تسييس السياسات النقدية، وأدى إلى تقلبات حادة في الأسواق العالمية، وإلى تسارع خروج المستثمرين من الأصول المقومة بالدولار مثل الأسهم والسندات.

ضعف الدولار يعزز جاذبية الذهب

تأثر الدولار الأميركي بشكل كبير بهذه التطورات، حيث انخفض إلى أدنى مستوى له في ثلاث سنوات مقابل سلة من العملات الرئيسية يوم الاثنين. ومن المعروف أن ضعف الدولار يعزز من جاذبية الذهب، لأنه يقلل من كلفته بالنسبة للمستثمرين الذين يتعاملون بعملات أخرى.

وقد لعب هذا التراجع في قيمة العملة الأميركية دورًا رئيسيًا في دعم أسعار الذهب، إلى جانب الارتفاع المستمر في وتيرة التوترات الجيوسياسية والتجارية، وهو ما دفع المستثمرين إلى التحول نحو أصول أكثر أمانًا.

استثمارات المؤسسات: تدفقات قياسية نحو الذهب

شهدت صناديق الاستثمار المتداولة المدعومة بالذهب تدفقات قوية خلال الفترة الأخيرة، في ظل تزايد التوقعات بتباطؤ اقتصادي عالمي. كما استمرت البنوك المركزية حول العالم في شراء كميات كبيرة من الذهب، ما يعكس استراتيجية التحوط من التغيرات المفاجئة في أسعار العملات أو من التضخم المرتقب.

وقد ارتفع الذهب بأكثر من 30% منذ بداية العام، وهو أداء فاق كل التوقعات، مدعومًا من العوامل الجيوسياسية والمخاوف من استمرار التضخم، بالإضافة إلى الاتجاهات السلبية في الأسواق المالية الأخرى.

توقعات بنوك الاستثمار: أسعار الذهب قد تصل إلى 4000 دولار

اللافت في هذه الموجة التصاعدية أن أسعار الذهب وصلت إلى مستوى 3500 دولار في وقت أقرب بكثير مما توقعت المؤسسات المالية الكبرى. فقد ذكرت المحللة الاستراتيجية في بنك "يو بي إس" جوني تيفيس الأسبوع الماضي أن الذهب قد يبلغ هذا المستوى بحلول ديسمبر 2025.

في حين ذهب خبراء بنك "غولدمان ساكس"، ومن بينهم لينا توماس، إلى توقع وصول سعر الذهب إلى 3700 دولار للأونصة بنهاية العام الحالي.

وفي أحدث تقديراتهم، يتوقع "غولدمان ساكس" أن تستمر الزخمات التصاعدية وأن يبلغ الذهب 4000 دولار للأونصة بحلول منتصف العام المقبل، في ظل استمرار القلق العالمي من اتجاهات السياسة النقدية والضغوط الاقتصادية العالمية.

شركات التعدين تحلق مع الذهب

كان لارتفاع الذهب تأثير مباشر على أسهم شركات التعدين، خاصة في الأسواق الآسيوية. ففي بورصة هونغ كونغ، قفز سهم شركة "Zijin Mining Group" الصينية، الرائدة في إنتاج المعادن، بأكثر من 6% خلال تداولات يوم الثلاثاء، وسجل السهم ارتفاعًا تجاوز 25% منذ بداية العام.

هذا الأداء يعكس ثقة المستثمرين في تحقيق أرباح كبيرة من شركات تعدين الذهب والمعادن النفيسة في ظل الأسعار المرتفعة الحالية.

التوترات التجارية بين الصين والولايات المتحدة تعمق حالة القلق

في سياق موازٍ، لا تزال التوترات التجارية بين الولايات المتحدة والصين تشكل عاملاً حاسمًا في التوجهات الاقتصادية العالمية. فقد أصدرت وزارة التجارة الصينية تحذيرًا حادًا للدول التي قد تعقد اتفاقيات تجارية مع واشنطن من شأنها الإضرار بالمصالح الصينية.

واتهمت الصين الولايات المتحدة باستخدام الرسوم الجمركية والعقوبات النقدية كوسيلة للضغط على شركائها التجاريين، مؤكدةً أنها سترد على أي تحركات عدائية بإجراءات مضادة صارمة.

وكانت الولايات المتحدة قد فرضت مؤخرًا رسومًا تصل إلى 145% على السلع الصينية، ما دفع الصين إلى الرد برسوم انتقامية، مما يزيد من حالة عدم اليقين في الأسواق العالمية.

المعادن الأخرى تشهد ارتفاعًا... والنحاس يقفز لأعلى مستوى في أسبوعين

لم تقتصر موجة الارتفاع على الذهب وحده، إذ سجلت المعادن النفيسة الأخرى أيضًا مكاسب ملحوظة:

• ارتفعت أسعار الفضة بنسبة 0.8% لتصل إلى 32.795 دولار للأونصة.

• كما صعدت عقود البلاتين الآجلة بنسبة 1% إلى 976.10 دولار للأونصة.

أما أسعار النحاس، فقد واصلت صعودها يوم الثلاثاء لتسجل أعلى مستوى لها في أسبوعين، مدعومة بضعف الدولار، رغم استمرار القلق بشأن الرسوم الجمركية الأميركية على الصين، والتي تُعد أكبر مستورد للنحاس عالميًا. وقد ارتفعت عقود النحاس الآجلة في بورصة لندن بنسبة 1% لتصل إلى 9311.60 دولار للطن، بينما صعدت عقود النحاس الآجلة لشهر مايو بنسبة 1.1% لتسجل 4.7713 دولار للرطل.

الخلاصة: الذهب يتألق وسط الفوضى العالمية

مع استمرار الضغوط السياسية والاقتصادية من كافة الاتجاهات، يبدو أن الذهب سيبقى الملاذ المفضل للمستثمرين الباحثين عن الأمان في زمن الغموض. من صراع ترامب مع الاحتياطي الفيدرالي، إلى تصاعد الحرب التجارية بين الصين والولايات المتحدة، مرورًا بالمخاوف من التضخم وضعف الدولار... كل هذه العوامل تتلاقى لدفع المعدن النفيس نحو مستويات غير مسبوقة، في مشهد يعكس التحولات العميقة التي يشهدها الاقتصاد العالمي في هذه المرحلة المفصلية.